حكم الأمويون العالم الإسلامي إحدى وتسعين سنة ( 41 ــ 132 هـ ) وتولي الحكم منهم خلال هذه الفترة أربعة عشر خليفة أولهم معاوية بن أبي سفيان وأخرهم مروان بن محمد قدمنا فصلا للتعريف بهم وبسياستهم وأسلوبهم في إدارة الدولة وأبرز أعمالهم ويتضح من الدراسة أن معظم هؤلاء الخلفاء لم يكونوا علي تلك الصورة القاتمة التي حاولت أن تصورهم بها مصادر التاريخ القديمة ذات الاتجاهات الحزبية المعادية لهم ، والدراسات الحديثة التي استقي أصحابها معلوماتهم من تلك المصادر وأثبتت الدراسة التي استقينا مادتها العلمية من المصادر المحايدة أن معظم خلفاء بني أمية كانوا رجالا علي مستوي المسئولية كرسوا كل وقتهم وجهدهم لإدارة الدولة ، والسهر علي رعاية مصالح المسلمين وليس معني هذا أن أعمالهم كانت كلها صائبة أو بريئة من الأخطاء ، بل كانت لها أخطاء وتجاوزات أشرنا إليها في حينها ، وهذا أمر لا يسلم من يتصدى لإدارة دولة كبيرة كالدولة الأموية .
أما معظم أمجاد الأمويين الباقية علي الزمن فهي جهودهم في ميدان الفتوحات الإسلامية فرغم المصاعب الكثيرة التي كانت تعترض طريقهم والقوي والأحزاب والفرق العديدة المعادية لهم والتي كانت تشدهم الي الوراء رغم كل ذلك فقد قاموا بفتوحات رائعة ورفعوا راية الإسلام ، ومدوا حدوده من الصين في الشرق الي الأندلس وجنوب فرنسا في الغرب ومن بحر قزوين في الشمال حتي المحيط الهندي في الجنوب
ومما يجدر ذكره أن هذا الفتح العظيم لم يكن فتحا عسكريا لبسط النفوذ السياسي واستغلال خيرات الشعوب ، كما يدعي أعداء الإسلام وإنما كان فتحا دينيا وحضاريا فقد عمل الأمويون بكل طاقاتهم علي نشر الإسلام في تلك الرقعة الهائلة من الأرض التي فتحوها ، وطبقوا منهجا سياسيا في معاملة أبناء البلاد المفتوحة هيأهم لقبول الإسلام دينا ، حيث عاملوهم معاملة حسنة في جملتها واحترموا عهودهم ومواثيقهم معهم وأشركوهم في إدارة بلادهم ، فأقبلوا علي اعتناق الإسلام عن اقتناع ورضا وبذلك تكون في العصر الأموي عالم إسلامي واحد أخذ يشق طريقه تدريجيا نحو التشابه والتماثل في العادات والتقاليد والأخلاق ومعاملات الحية وأخذت أممه وشعوبه تنسلخ من ماضيها كله ، وتنصهر في بوتقة الإسلام الذي حقق لها العزة والكرامة والحرية والمساواة ، ومكونة الأمة الإسلامية الواحدة .
ومن المجالات التي أظهر فيها الأمويون مقدرة فائقة مجال الإدارة ، إدارة الدولة وتسيير أمورها وهذا أمر عظيم فلا شك أن الإدارة الحسنة هي أهم وسائل تقدم الأمم ورقيها ولقد كان معاوية بن أبي سفيان ، ومروان ابن الحكم وابنه عبد الملك وأبناؤه الوليد وسليمان وهشان ، وابن أخيه عمر بن عبد العزيز ، وحتي مروان بن محمد آخر خلفاء بني أميه ، كان هؤلاء الخلفاء رجال دولة من الطراز الأول ، لم يركنوا الي الدعة والراحة
وإنما كرؤساء كل وقتهم لإدراة دلتهم المترامية الأطراف ولم يكفوا عن تطوير الأجهزة الإدارية والدواوين التي بدأت بذورها منذ عهد الرسول واستحداث ما دعت الضرورة وظروف تطور المجتمع والدولة الي إنشائه من تلك الأجهزة والدواوين ، فقد أنشأ معاوية بن أبي سفيان ديوان البريد وكلمة ديوان كلمة فارسية تعني السجلات التي تدون فيها الأموال والأسماء وكانت الدواوين في تلك العصور تؤدي عمل الوزارات في عصرنا الحاضر .
وديوان البريد الذي أنشأه معاوية كان يؤدي عملين هامين الأول : توصيل ونقل الرسائل والمراسلات بين الخليفة التي تراقب له الولاة والعمال وترفع له تقارير منتظمة عنهم حتي يكون مطلعا باستمرار علي سير العمل في الدولة كما أنشا معاوية ديوانا آخر عل جانب عظيم من الأهمية ، وهو ديوان الخاتم وهذا الديوان يشبه إدارة الأرشيف في الدول المعاصرة فكانت كل رسالة أو وثيقة أو معاهدة تكتب ويوقع عليها الخليفة تحفظ منها نسخة في هذا الديوان بعد أن تختم بالشمع وتحزم بحيث لا يمكن تزويرها أو العبث بها .
ويطول الحديث بنا لو حاولنا تناول الدواوين العديدة التي أحدثها الأمويون لإدارة الدولة فهذه مجرد أمثلة فقد كانت هناك دواوين كثيرة مثل ديوان الجند الذي يقوم بعمل وزارة الدفاع وديوان الرسائل الذي كان يقوم بعمل عدة وزارات ، مثل وزارة الخارجية وديوان الخراج الذي كان يقوم بعمل وزارة الخزانة .
ولقد طور عبد الملك بن مروان هذه الدواوين وقام بعمل عظيم وهو تعريب دواوين الخراج في الدولة الإسلامية ، فقد كانت تلك الدواوين منذ بداية الدولة الإسلامية وحتي عهد عبد الملك بن مروان تكتب في فارس والعراق باللغة الفارسية ، وفي الشام ومصر تكتب باللغة اليونانية ، وكانت ذلك في البداية ضرورة من الضرورات التي واجهتها الدولة الإسلامية ، فلم يكن لديها عدد كاف من العرب المسلمين لإدارة دواوين الخراج ، لأن العمل فيها صعب ومعقد ويحتاج الي خبرة كبيرة ، فترك المسلمون هذه الدواوين تحت إدارة غير العرب ، وتستخدم فيها لغات غير عربية ، فلما جاء عبد الملك بن مروان رأي أن هذا الوضع لا بد أن ينتهي ولا بد أن تتوحد لغة الإدارة في جميع أنحاء الدولة الإسلامية الي اللغة العربية ولم يقم عبد الملك بهذه الخطورة الجبارة إلا بعد أن استعد لها استعدادا كافيا بأن جهز عددا من العرب المسلمين الذي تعلموا اللغتين الفارسية واليونانية وتدربوا علي شئون المال والاقتصاد ولذلك لما بدأت ترجمة هذه الدواوين لم يحدث أي نوع من الارتباك أو تعطيل العمل ، ولم يقتصر عمل عبد الملك هذا علي توحيد لغة الإدراة في الدولة الإسلامية بل كان له أثر آخر أعظم ، ذلك أن الموظفين غير العرب الذين كانوا يعلمون في تلك الدواوين ، وكانت أعدادهم كبيرة ، لكي يحافظوا علي وظائفهم فقد بدأوا يتعلمون ا للغة العربية وتعلمهم اللغة العربية جعلهم يتعرفون علي الإسلام والاقتراب من مبادئه العظيمة وانتهي الأمر بأغلبهم الي اعتناقه .
وكما عرب عبد الملك بن مروان دواوين الخراج فقد قام بعمل عظيم آخر لا يقل أهمية عن تعريب الدواوين ن وهو تعريب العملة ، فقد كانت الدولة الإسلامية حتي عهده تعتمد علي النقد الأجنبي وبصفة خاصة الدينار البيزنطي ، فألغي عبد الملك التعامل بهذا الدينار ، وأمر بسك دينار إسلامي ، وبنيت دور لسك النقود في الشام والعراق ، وبهذا صبغ عبد الملك بن مروان الدولة الإسلامية بصبغة عربية إسلامية في جميع المجالات