تحتفل الامة العربية والاسلامية وسائر البشرية هذه الأيام بذكرى الهجرةالنبوية وبهذه المناسبة نقدم التهاني والتبريكات للجميع بالصحة والعافية ونتمنى سنة جديدة لهذه الامة العظيمة تداوي فيها جراحها وتنهض فيها من جديد كما فعل حبيبنا و نبينا محمد صلى الله عليه و سلم حيث أعلن بهذه الهجرة أفضل الثورات حيث كانت من حيث الاعداد المادي لها بشريا و عقلانيا دون انتظار معجزة مادية تلوي الأعناق كما كان يحصل سابقا لدى الرسل السابقين اذ هناك مرحلة جديدة في تاريخ البشرية يفتتحها الرسول صلى الله عليه وسلم بتجاوز مرحلة المعجزات المادية التي كانت للرسل السابقينوتعويضها بالعنصر البشري الذي يستمد قوته المادية و المعنوية من الله فيبدع بامر من الله تعالى فبالرغم من ضعف امكانياته المادية بالقياسات البشرية من حيث المال والسلطة والجاه حيث كانت كل حسابات موازين القوىراجحة لفائدة الصف المعادي وبالرغم من اعتماده على الله سبحانه و تعالىالذي وعده بالحماية و العصمة من الناس و لكنه مع ذلك كان واعيا تمامالوعي بطبيعة المرحلة الجديدة التي يمثلها والتي ينبغي عليه أن يقومبواجباته ازاءها لا كرسول فقط بل و أيضا كانسان خليفة لله و مسؤول عندوره المناط بعهدته كبشر في وقت لم يعد ممكنا انتظار معجزات مادية ملموسةكما كان سابقا اذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم بالرغم من امكانياته البشرية القليلة العدد والمادية المتواضعة فقد عرف كيف يعد العدة للخروجمن عنق الزجاجة بعد أن أحكمت قريش محاصرته على جميع الأصعدة ووظفت كلامكانياتها لهذا الحصار ولكن مع ذلك لم يستسلم و لم ينهزم بل قاوم و عرفكيف كيف يخرج من ذلك المأزق و هذا الدرس من الرسول صلى الله عليه وسلميجب أن نطبقه في حياتنا اليومية فرغم تكالب الأمم ضدنا واستعمارهالبلادنا في فلسطين والعراق غيرهما من وطننا وكذلك ما نعانيه من استبداد وقهر في الكثير من بلداننا مع تكالب القوى العالمية عليها عسكرياواعلاميا وسياسيا من خلال القرارات الظالمة للأمم المتحدة و المنظمات الاقليمية و الدولية و لكنها كشعوب اسلامية و قد تشبعت برسالة محمد صلىالله عليه وسلم و نضاليته في أحلك الظروف و أشدها ماساوية و مع ذلك واصلت نضالها و مقاومتها و انها الآن تسدد ضربات موجعة للأحلام التوسعية للمشروع الصهيو أمريكي في العالم و قد تجهز عليه في أوقات لاحقة باذن الله .قلت اذن ان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعد العدة اللازمة للهجرةالثورية ليس فرارا من المواجهة و انما بحثا عن أفضل الفرص لمواصلةالاشتباك مع العدو و انهاكه و الاجهاز عليه في اللحظة المناسبة كما فعلتكل الشعوب المغلوبة على أمرها أثناء المحن و الأزمات القاسية التي تمربها بحيث تقاوم وتناضل حتى تحققارادتها .واني لست بحاجة الى الحديث عن كل مراحل الهجرة النبوية و ما قام بهالرسول صلى الله عليه وسلم من أعمال بشرية فهي متيسرة للقارىء في كتبالسيرة النبوية فيمكن لمن شاء أن يعود اليها في مظانها وانما الذي يهمناأن العناية الالاهية بالرسول صلى الله عليه وسلم أثناء هذه الهجرة والاعداد لها لم تكن غائبة عن الرسول صلى الله عليه وسلم و انما كانت حاضرة في ذهنه وقلبه و هذا من العوامل النفسية و المعنوية التي ساعدته على انجاز هذا الفعل التاريخي المشهود له بالجرأة و الشجاعة و البطولة اضافة الى أنه يستلهم القرآن الكريم و يطبقه بحذافيره اذ كان خلقهالقرآن .من المعلوم أن القرآن الكريم ينقسم الى مكي و مدني وكذلك حياة الرسول صلىالله عليه وسلم حيث كانت الفترة الأولى ثلاثة عشر سنة وهو يدعو كفار قريشدعوة مسالمة الى الله دون حصوله على نتائج تذكر اذ لم يستعمل معهم سوىالدعوة بالطرق اللينة كما أمره الله بذلك و لكن النتائج كانت هزيلة للغاية اذ لم يؤمن بدعوته سوى عدد قليل من العبيد وضعفاء الحال من الذين لا يملكون مالا أو جاها في قريش وتبعا لذلك تعرضوا لشتى أنواع التعذيب والأذى الذي نعلم عنه الكثير ومع ذلك فان هذه القلة المؤمنة لم ترضخ و لمتستسلم بحجة أن موازين القوى ليست لصالحهم بل صبروا وأظهروا شجاعة نادرة في التصدي لرموز الكفر و الطغيان من قريش و كشفوهم على حقيقتهم أمامالناس وقد هاجر العديد منهم الى الحبشة مرتين ثم عندما ياذن الله بالهجرةالى المدينة و يهيىء الرسول نفسه للالتحاق بهم عبر الاتفاق المسبق مع اهلالمدينة في بيعة العقبة الأولى و الثانية فاننا نكون ازاء دروس مستفادةمن هذا التصرف النبوي الحكيم فانه لم يغامر بنفسه وصحابته منذ الاتفاق الأول الذي حصل مع عدد قليل من أهل المدينة بل انتظر سنة اخرى حتى جاءهعدد أكبر لتاكيد و توثيق الاتفاق الأول بأكبر عدد ممكن من الأنصار له في المدينة ضمانا لدعوته وصحابته كما كان صلى الله عليه وسلم ومعه كل من أبي بكر وعلي بالرغم من صغر سنه يمثلون القيادة العليا للجماعة المؤمنة دينيا و سياسيا فان القيادة النبوية لم تؤمن نفسها بالانسحاب قبل جماعتها بل ان القيادة ظلت في اتون المواجهة حتى آخر لحظة اذ الانسحاب من المواجهةيتطلب التأمين الكامل للقواعد ثم انسحاب القيادة أخيرا و هو نموذج فريدللمواجهة لم تعهده الدعوات الدينية و الحركات السياسية من قبل و لا بعدحيث من العادة أن تؤمن القبادة نفسها و تضحي بالأتباع ولكن في الحالةالثورية لرسول الاسلام صلى الله عليه وسلم يحصل العكس تماما, القيادةتؤمن جماهيرها أولا ثم تلتحق بهم بعد ذلك و هكذا يفعل الأبطال دائما وقدانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة انسجاما مع قولهتعالى (ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) و قوله تعالى ( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم وما كنا نعمل من سوء ) 28النحل بحيث يتبين من خلال هذه الآيات الكريمة مسؤولية البشر المظلومينوالمسحوقين أمام الله ان لم يغيروا الظلم و الباطل و الجبروت المسلطعليهم و لو بالهجرة فان أرض الله واسعة و كلها محل لاحداث النغيير الثوريالبناء للانسان المؤمن فقد جعلها الله جميعا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم مسجدا و طهورا ليمارس عليها الانسان دوره في تحقيق الانجازات العملاقة التي تليق به كانسان خليفة لله و في حال الضعف والاستسلام والخنوع فان أولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيرا و هناك استثناء وحيدللمستضعفين من الرجال و النساء و الأطفال الذين لا يجدون حيلة أو قدرةومع ذلك فان الله قد يغفر لهم و قد لا يغفر لهم فأولئك عسى الله أن يعفوعنهم و هكذا ينفرد الاسلام بقيم جديدة على الساحة العالمية في رفضه للظلمو الدعوة لتغيير المنكر مهما كانت الصعوبات فلا استكانة و لا هوان أمام الطغاة و المستبدين اذ الأفراد و الجماعات مهما كانت الظروف و التحدياتالتي يواجهونها مسؤولون أمام الله تعالى عن رفع الظلم عن أنفسهم ولاينتظروا حتى تأتي معجزة من السماء تغير ما بهم فقد ولى ذلك العهد الى غيررجعة بهذه الرسالة الخاتمة وهذا هو السر الحقيقي وراء انتصارات المسلمينأثناء الفتوحات الكبرى بالرغم من عدم توازن القوى بينهم و بين أعدائهم وذلك أنهم فهموا أن لهم دورا رساليا في هذه الحياة لا بد من أدائه على أكمل الوجوه و الا فان العقاب الالاهي ينتظر يوم القيامة اضافة الى بقاءالحال على ماهو عليه في الدنيا دون تغيير .من معالم العمل الثوري الذي أنجزه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينةاقامة أول دولة عربية اسلامية على أسس جديدة لم تكن مألوفة في تاريخالبشرية فقد قامت على أساس التعاقد على خلاف الدول التي سبقته و لحقته حيث قامت على أساس القوة المسلحة و ما أنجزه الرسول صلى الله عليه وسلم بمعية الصحابة يعد انجازا تاريخيا غير مسبوق اذ تم على اساس تعاقدي عبرتلك الوثيقة التاريخية الهامة وهي الصحيفة التي تعتبر أول دستور مدني تعاقدي مكتوب بين مواطني دولة مدنية واحدة بقطع النظر عن الدين والعرق والمكانة الاجتماعية . وبذلك يدشن الاسلام حقيقة واقعة وهي بناؤه للدولةعلى أساس ديمقراطي تعاقدي لجماهير الآمة أوسع مشاركة فيها .