عدد المساهمات : 2508 نقاط : 18903 تاريخ التسجيل : 04/04/2010 العمر : 41 الموقع : www.elbayadh.ahladalil.com
موضوع: فقـه دخول الصور في مظاهر الترف الأحد 29 أغسطس - 0:54
الشيخ: يوسف القرضاوي
كتاب: الإسلام و الفن
الجزء الأول : التصوير في القرآن
الجزء الثاني : تصوير ما يعظم و يقدس
الجزء الثالث : تصوير ما يعتبر من شعائر دين آخر
دخول الصور في مظاهر الترف
( د ) أن تكون جزءاً من أدوات الترف و مظاهرة . و هذا ما يظهر من كراهية النبي ( صلي الله عليه و آل و سلم ) لبعض الصور في بيته ،فقد روت عائشة أنه عليه الصلاة و السلام خرج في غزالة ، قالت : فأخذت نمطاً ( نوعاً من البسط اللطيفة أو الستائر ) فسترته على الباب ، فلما قدم ، فرأي النمط ، فجذبه حتى هتكه ، ثم قال : « إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة و الطين » قالت : فقطعنا منه و سادتين ، و حشوتهما ليفاً ، فلم يعب ذلك علي » (متفق عليه( و النص بهذه الصيغة – إن الله لم يأمرنا - يقتضي أنه ليس بواجب و لا مندوب ، فهو لا يدل على أكثر من الكراهة التنزيهية ، كما قال الإمام النووي (شرح النووي على مسلم : 14 / 86 / ، 87) ، و لكن بيت النبوة ،ينبغي أن يكون أسوة و مثلاً للناس في الترفع على زخرف الدنيا و زينتها . يؤكد هذا حديث عائشة الآخر ، قالت : كان لنا ستر فيه تمثال طائر ، و كان الداخل إذا دخل استقبله ، فقال لي رسول الله ( صلي الله عليه وآل و سلم ) :« حولي هذا ،فإني كلما دخلت فرأيته ، ذكرت الدنيا » (رواه مسلم في باب « تحريم الصور » : 14/87) . و مثله : ما رواه القاسم بن محمد عنها رضي الله عنها : أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ، ممدود إلى سهوة ، فكان النبي ( صلي الله عليه و آل و سلم ) يصلي إليه ، فقال : « أخريه عني » قالت : فأخرته فجعلته و سائد . و في دواية عند غير مسلم : « أخريه عني ، فإن تصاويره تعرض لي في صلاتي » (روها مسلم في باب « تحريم الصور : 14 / 89) . فهذا كله من زيادة الترفه و التنعم ، و هو من وادي الكراهية ، لا من وادي التحريم ، و لكن النووي قال « هذا محمول على أنه كان قبل تحريم اتخاذ ما فيه صورة ، فلهذا كان يدخل ويراه و لا ينكره » (مسلم مع شرح النووي : 14 / 87 ) . و معني هذا :أنه يرى الأحاديث التي ظاهرها التحريم ناسخة لهذا الحديث و ما في معناه ، و لكن النسخ لا يثبت بمجرد الاحتمال . فإثبات مثل هذا النسخ يستلزم أمرين : أولهما : التحقق من تعارض النصين : بحيث لا يمكن الجمع بينهما ، مع أن الجمع ممكن بحمل أحاديث التحريم على قصد مضاهاة خلق الله ، أو بقصرها على المجسم ( أي ما له ظل ) . وثانيهما : معرفة المتأخر من النصين . و لا دليل على أن التحريم هو المتأخر ، بل الذي رآه الإمام الطحاوي في « مشكل الآثار » هو العكس ، فقد شدد الإسلام في شأن الصور في أول الأمر ، لقرب عهده بالوثنية ، ثم رخص في المسطحات من الصور . أي ما كان رقماً في ثوب ، و نحوه . و قد روي هذا الحديث عن عائشة بصيغة أخرى ، تدل على شدة الكراهية من النبي ( صلي الله عليه و آل و سلم ) . فعن عائشة : أنها اشترت نمرقة ( و سادة صغيرة ) فيها تصاوير ، فلما رآها رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) ، قام على الباب ، فلم يدخل ، فعرفت في وجهه الكراهية ، قالت : فقلت : يا رسول الله ، أتوب إلى الله ، و إلى ، و إلى رسوله ، ما أذنبت ؟ فقال : « ما بال هذه النمرقه » ؟ قلت : اشتريتها لك لتقعد عليها و توسدها ، فقال رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) : « إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ، ويقال لهم : أحيوا ما خلقتم » . و قال : « أن البيت الذي فيه الصورة لا تدخله الملائكة » (متفق عليه) .
نظرات في فقه الأحاديث :
في هذا الجو الذي كان يحيط بفن التصوير و الصور في عصر النبوة ، ورد معظم الأحاديث المحرمة . و لا غرو أن شددت الأحاديث النبوية في هذا الأمر ، و إن كان تشديدها في صنعة التصوير أكثر من تشديدها في اقتناء الصورة ، فبعض ما يحرم تصويره يجوز اقتناؤه فيما يمتهن مثل البسط و الوسائد و نحوها مما يبتذل بالاستعمال ، كما رأينا في حديث عائشة . و من أشد ما روي في منع التصوير : ما جاء في الصحيحين عن ابن عباس مرفوعاً : « كل مصور في النار ، يجعل له بكل صورة صورها نفساً ، فيعذبه في جهنم » . و في رواية للبخاري عن سعيد بن أبي الحسن قال : كنت عند ابن عباس ، إذ جاءه رجل ، فقال : يا ابن عباس ؛ إني رجل إنما معيشتي من صنعة يدي ،و إني أصنع هذه التصاوير . فقال ابن عباس : لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) . سمعته يقول : « من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح ، و ليس بنافخ فيها أبداً» . فرتا الرجل ربوه شديدة ( أي انتفخ غيظاً و ضيقاً ) فقال : « ويحك ؛ إن أبيت إلا أن تصنع ، فعليك بهذا الشجر ، و كل شيء ليس فيه روح » . و روي مسلم عن حبان بن حصين قال : « قال لي علي ابن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) ؟ ألا تدع صورة إلا طمستها ، و لا قبراً مشرفاً إلا سويته » . و روي مسلم عن عائشة أنها قالت : واعد رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) جبريل عليه السلام ، في ساعة يأتيه فيها ، فجاءت تلك الساعة ، و لم يأته ، و في يده عصاً ، فألقاها من يده ، و قال : « ما يخلف الله وعده و لا رسله » ! ثم التفت ، فإذا جرو كلب تحت سريرة ، فقال : « يا عائشة ؛ متى دخل هذا الكلب ههنا » ؟ فقالت : و الله ما دريت ! فأمر به ، فأخرج ،فجاء جبريل ، فقال رسول الله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) : « واعدتني ، فجلست لك ، فلم تأت » ! فقال : منعني الكلب الذي كان في بيتك ، إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب و لا صورة » (رواه مسلم). و بهذا نرى أن عدد الأحاديث التي وردت في شأن التصوير و الصور ، ليس قليلاً ، كما زعم بعض من كتب في ذلك ، فقد رواها جمع من الصابة منهم : ابن مسعود ، و ابن عمر ، و ابن عباس ، و عائشة ، وعلي ، و أبو هريرة ، و أبو طلحة . و كلها في الصحاح . و قد اختلف آراء الفقهاء في قضية التصوير في ضوء هدا الأحاديث ، و كان من أشرهم في ذلك الإمام النووي الذي حرم تصوير كل ما فيه روح من إنسان أو حيوان ، مجسماً ( له ظل ) أو غير مجسم ، ممتهناً أو غير ممتهن ، و لكنه أجاز استعمال ما يمتهن ، و إن كان تصويره حراماً ، كالمصور في البسط و الوسائد و نحوها . و لكن بعض فقهاء السلف قصر التحريم على المجسم ( الذي له ظل ) و هو ما نطلق عليه عرفاً « التماثيل » ، فهي أوغل في مشابهة الوثنية ، و هي التي يظهر فيها مضاهاة خلق الله ، لأن خلق الله و تصويره مجسم : ( هوَ الَذِي يصَوِركمُ فِي الُأَرُحَامَ كَيُفَ يَشَآء ) (آل عمران(6)) . و في الحديث القدسي : « و من أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي » ، و خلق الله تعالى مجسم ، و هو الذي يمكن قبول نفخ الروح فيه ، إذ المسطح ليس قابلاً لذلك ، و لأنها أدخل في الترف و السرف ، و لا سيما ما كان من المعادن الثمينة . و هذا مذهب بعض السلف . . و قد قال النووي : إن هذا مذهب باطل ، فتعقبه الحافظ ابن حجر بأنه مذهب القاسم بن محمد ، و لعله أخذ بعموم قوله ( صلي الله عليه و آل و سلم ) : « إلا رقماً في ثوب » و سنذكر نص هذا الحديث . و القاسم بن محمد بن أبي بكر ، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة ، و من أفضل أهل زمانه ، و ابن أخي عائشة ، و راوي حديث النمرقة عنها ، و يحتج له بالحديث التالي : ففي الصحيح عن بسر بن سعيد زيد بن خالد الجهني عن أبي طلحة صاحب رسول الله ( صلي اله عليه و آل و سلم ) أنه قال : إن رسول الله ( صلي الله عليه و آل وسلم ) قال : « إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة » . قال بسر : ثم اشتكى زيد بعد ، فعدناه ، فإذا على بابه ستر فيه صورة ، قال : فقلت لعبيد الله الخواني ربيب ميمونة زوج النبي ( صلي الله عليه و آل و سلم ) : ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول ؟ فقال : ألم تسمعه حين قال : « إلا رقماً في ثوب » . و أكد ذلك ما رواه الترمذي أن سهل بن حنيف وافق أبا طلحة على هذا الاستثناء : « إلا رقماً في ثوب » . و تأويل هذا بأن المراد به : ما كان لغير ذي روح ، يعارضه حديث تمثال الطائر الذي كان فيه بيت عائشة ، و قول النبي لها :« حولي هذا ، فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا » ، أو : « فإن تصاويره تعرض لي في صلاتي » . فالأرجح قصر التحريم على المجسم ، و أما صور اللوحات المسطحة على الورق ، أو الجدران ، أو الخشب و نحوها ، فأقصى ما فيها الكراهية التنزيهية ، كما ذكر الإمام الخطابي ، إلا ما كان فيه غلو و إسراف ، كالصور التي تباع بالملايين و نحوها . و يستثنى من المجسم المحرم : لعب الأطفال . من الدمى و العرائس و القطط و الكلاب و القرود و نحوها ، مما يتلهى به الأطفال ، لأن مثله لا يظهر فيه قصد التعظيم ، و الأطفال يعبثون بها . و دليل ذلك حديث عائشة أنها كانت تاعب بالبنات ( العرائس ) ، و إن صواحب لها كن يجئن إليها فيلعبن معها . و كان الرسول الكريم يسر لمجيئهن إليها . و مثل ذلك : التماثيل ئ العرائس التي تصنع من الحلوى و تباع في بعض المناسبات ، ثم لا تلبث أن تؤكل . كما يستثنى من الحظر : التماثيل التي تشوه بقطع رأسها ، أو نحو ذلك منها ، كما جاء في الحديث أن جبريل قال للرسول ( صلي الله عليه و آل و سلم ) : « مر برأس التمثال فليقطع حتى يصير كهيئة الشجرة » . و أما التماثيل النصفية التي تنصب في الميادين و نحوها للملوك و الزعماء ، فلا يخرجها من دائرة الحظر ، لأنها لا تزال تعظم . و نهج الإسلام في تخليد العظماء و الأبطال يخالف نهج الغربيين ، فهو يخلدهم بالذكر الحسن ، و السيرة الطيبة ، يتناقلها الخلف عن السلف ، و يتمثلونها ، و يأتسون بها ، و بهذا خلد الأنبياء و الصحابة و الأئمة و الأبطال و الربانيون ، فأحبتهم القلوب ودعت لهم الألسنة ، و إن لم ترسم لهم صورة ، و لا نصب لهم تمثال . و كم من تماثيل قائمة لا يعرف الناس شيئاً عن أصحابها ، كتمثال « لا ظو غلى » في قلب القاهرة ، و كم من تماثيل يمر الناس عليها فيلعنون أصحابها( انظر ي موضوع التصوير و الصور : ما فصلناه في كتابنا « الحلال و الحرام » فصل : « في البيت » ) .