طريق الإيمان
الإيمان بالله أو الإيمان بغير الله ليس هو من الأمور الطارئة، التي يفعلها بعض البشر ولا يفعلها غيرهم، أو هي مما يقع في دائرة هوى البعض دون غيرهم، بل هي أمر فطري غريزي، يحمله كلُّ إنسان في داخله، يصاحبه بل ويشغله منذ طفولته، وهو أمر مصيري يحدد هوية الفرد كفرد، وهوية المجتمع الذي يكوّنه هذا الفرد، وينتقل إلى تحديد هوية الدولة التي يكونها هذا المجتمع .
وحيث ما تجد هذه الرغبة المبرمجة في عقل الإنسان من إجابات لتساؤلاتها، فإن نوعية الفكر الذي يجيب على هذه التساؤلات هو الذي يصنع فكر الإنسان الأساسي، الذي يبني عليه كل مفاهيمه عن الحياة وأعماله وسلوكه فيها .
إن من الطبيعي والفطري أن تكون أول تساؤلات المخلوق البشري هي عن خلقه ووجوده، وعن أسباب خلقه ووجوده، وما هو مصيره وأسباب مصيره، ولماذا تنتهي حياته بالموت، وماهية هذا الموت، وإلى أين سيكون مصيره بعد الموت؟ بل وتحمل نفس كل إنسان التساؤلات عن خلق هذا الكون، ومن هو خالق هذا الكون، ومن ذا الذي ينظم أمر هذا الكون، ويتصرف في أمره ؟
إذن فإن ما يُشغل الإنسان منذ أول عمليات إدراكه الطفولي هو الإنسان والكون والحياة، ويشغله منشأ هؤلاء ومصيرهم، أي هل هذه الأشياء مخلوقة لخالق، أم هي شيء آخر غير ذلك؟
فإن وصل الإنسانُ بفكره وقناعته بأن كل هذه الأشياء مخلوقة لخالق، ترتب على هذه الحقيقة حقائق أخرى في عقل الإنسان ونفسه وشعوره وحياته، وفي موقفه الخُلُقي والسلوكي والتربوي والعلمي، وفي مطالباته في الحياة، وفي علاقاته مع نفسه وغيره من بني الإنسان ومع بيئته، فضلاً عن علاقته مع خالقه الذي آمن بوجوده، وبالتالي موقفه من تاريخه وحاضره ومستقبله .
وكذا الحال عندما يتوصل أحدهم بفكره فبقناعته بعدم وجود خالق للكون والإنسان والحياة، ويتبنى هذه القناعة، يترتب على قناعته هذه وعلى موقفه كل ما ذكرنا من أفكار ومقاييس وقناعات، ولكن في إتجاه آخر تماماً، لا يستند إلى وجود الخالق ولا يمتد إليه ولا لأنبيائه ورسله وكتبه بصلة .
في الحقيقة لابد أن تكون لدى الإنسان القناعة المطلقة بإحدى الحقيقتين، بوجود خالق لهذا الكون أو بعدم وجود خالق، ليس له الخيار إلا بتبنّي إحداهما والعيش على أساس هذا التبني، أما إن لم يكن هناك قناعة مطلقة، عاش الإنسان بفكرةٍ مهزوزة غير واضحة، تحيطها الشكوك وتنتابها الريب، غير ثابتة، فتؤثر على كمال شخصيته وعلى ثبات سلوكه، وعلى وضوح رؤيته، فضلاً عن الأنظمة والقوانين المنبثقة من هذه القناعة، المتغيرة من يوم لآخر، حسب التبدل المناخي لهذه القناعة .
ولذلك فإما قناعة مطلقة بوجود خالق لهذا الكون ومصير إليه، وتحمُّل كل ما يترتب على هذه القناعة، أو قناعة بعدم وجود خالق لهذا الكون وانتفاء المصير إليه، وتحمّل كل ما يترتب على هذه القناعة .
الإيمان والذي أسميته هنا بالقناعة المطلقة تجاوزاً، هو مرحلة من التصديق القطعي أو الجازم لأمر حقيقي وواقعي، يستند إلى أدلة قطعية يعتمد عليها الإنسان في إثبات وجود أمر ما، كإثبات وجود الله سبحانه وتعالى، وإثبات أن وراء هذا الكون والإنسان والحياة خالق خلقها .
طريقة الإثبات هذه بهذه الكيفية، هي أعلى درجة من درجات البراهين لأمر ما عند الإنسان، هذه الطريقة هي التي بنى عليها الإسلام فكرته ودعوته، وما ينبثق عنها من أنظمة وأحكام، هذه الطريقة هي التي بشكل رئيسي تعتمد على الإدراك العقلي، أي الإدراك المستند إلى الحواس الخمس التي لا تخطيء حسها، عندها يتيقن الإنسان تمام اليقين بما سيقرره في أمر العقدة الكبرى التي ولدت معه، وأشغلته في مسألة خلق الكون والإنسان والحياة، والتي سترسم حياته كاملة من تاريخها إلى حاضرها ومستقبلها .
فالعينان وما تبصره هو إدراك حسي لا مجال للشك فيه، وكذلك باقي الحواس يتم بها إدراك حسي لا يأتيه الشك من بين يديه ولا من خلفه، بهذا الحس يتم "الإدراك العقلي" إذا ما تم نقل هذه المعلومات إلى الدماغ وتم تفسير هذه المعلومات المنقولة بالمعلومات السابقة عن نفس الشيء المنقول، كالنظر إلى كأس ماء والتعرف عليه من خلال المعلومات السابقة الموجودة بالدماغ عن شكل الكأس وعن صفة الماء التي به، فيسمى ذلك إدراكاً عقلياً أو يسمى العقل .
بطريقة الإدراك العقلي المستند إلى الحواس الخمس يسعى كل إنسان في الدنيا التفكر في معرفة ماهية هذا الكون وطبيعة خلقه، ومن هو ذاك القادر على صنعه، بل إن الله سبحانه وتعالى في رسالته إلى كل أنبيائه، آخرها القرآن الكريم، طلب من الناس التفكر والتدبر وإشغال العقل، وعدم قبول الأفكار المستندة إلى الظن أو الخيال وما شابههما، بل جعل الله الدخول في الإسلام متوقفاً على إدراك وجود الله إدراكاً عقلياً، والإيمان بأن القرآن من عند الله وبأن محمد بن عبد الله رسول الله، وهذا أصل كل بناء عقائدي لكل إنسان في الدنيا .
نلخص حديثنا بالنقاط التالية :
1) إن موقف الإنسان من فكرة خلق الكون والإنسان والحياة هي التي تصنع فكره الأساسي، أي عقيدته التي ترسم له كل الأفكار والمقاييس والقناعات في الحياة وأنظمة الحياة كافة .
2) يُشترط للدخول في الإسلام القناعة العقلية (أي التصديق عن دليل عقلي أو نقلي قاطع) . أما الإيمان فهو إدراك عقلي قاطع بوجود الله سبحانه وتعالى ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى أنزله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
3) الإدراك العقلي المستند إلى الحواس هو أعلى درجات التصديق وإثبات الحقائق .
قال الله سبحانه وتعالى في سورة الحجرات آية 14
" قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم "
وقال الله سبحانه وتعالى في سورة يونس آية 36
" وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُون "